هناك
ميل في الوقت الحاضر، للتشديد المتصاعد على وجهة النظر الثقافية، في إطار
التربية والتنمية، وقد كانت التربية في الماضي تكديساً للمعلومات بشكل
أساسي، أما الآن فهي نظام لتعليم الحياة، يسمح للإنسان بالوصول إلى كامل
تفتحه ووعيه. وتشمل الثقافة في معناها الواسع، البيئة الطبيعية أو البيئة
الاصطلاحية التي يخلقها الإنسان لنفسه، أو ينشأ فيها، ووسائل العمل
المتعددة التي يستخدمها للسيطرة على هذه البيئة وتغييرها على هواه، أو
للتكيف معها.
والأطفال لا يشكلون
جمهوراً متجانساً، بل يختلفون باختلاف أطوار نموهم، لذا قسمت مرحلة
الطفولة إلى أطوار متعاقبة، هي مرحلة الميلاد، ومرحلة الطفولة المبكرة،
ومرحلة الطفولة المتوسطة، ومرحلة الطفولة المتأخرة، وقد ترتب على ذلك أن
توفرت للأطفال في كل طور ثقافة فرعية خاصة، ومن هنا أتت أهمية البحث عن
التربية الثقافية للطفل، بحيث تتوافق مع خصائص الطفل وحاجاته، في كل طور
من أطوار حياته.
وأحاول في هذا الفصل، الإجابة عن التساؤلات التالية:
- ما هي خصائص الثقافة ووظائفها؟
- أين تكمن أهمية ثقافة الطفل؟
- ما دور وسائط ثقافة الطفل؟
- ما مدى الربط بين التربية الثقافية والمستقبل؟
ـ خصائص الثقافة ووظائفها:
تتصف
الثقافة، بعدة خصائص تعطيها طابعها النوعي المميز كهوية اجتماعية، كما
أنها تقوم بالعديد من الوظائف التي تؤدي إلى تماسك المجتمع في توجهاته
الكبرى، وقولبة الأفراد كي يصبحوا أعضاء فيه، يعيشون ويتصرفون تبعاً لتلك
التوجهات.
والثقافة هي في المقام
الأول نسق أو نظام، يتكون من مجموعة مترابطة، من طرق التفكير والإحساس
والتأثير، وأي تغيير في جانب منه، يؤدي إلى تغيير الجوانب الأخرى. ولكل
مجتمع خصوصياته في ممارسة تراكيب هذا النظام أو القوة الفاعلة فيه، وهو ما
يؤدي إلى ذلك التنوع الكبير في الثقافات من ناحية، وإلى عناصر المشاركة
بين بعضها من ناحية ثانية. وأبرز التراكيب الثقافية(1) هي:
1-
التقنيات (التكنولوجيا): وهي تشمل كل الآلات والأدوات التي يستخدمها
الإنسان في الزراعة والصناعة، وفي وسائل الحرب، وتمتد إلى تقنيات الجسد.
2-
التركيب اللغوي أو الرمزي: ويتمثل في اللغة المحكية والمكتوبة والإشارات
والرموز. والتي اعتبرها البنيويون أساس الثقافة، إذ نظروا إلى التفاعلات
والممارسات في بعدها الرمزي كله.
3-
التركيب الاجتماعي: الذي يشمل العادات والتقاليد والعلاقات على أنواعها:
الحقوقية، والاقتصادية، والسياسية، والقرابة والروابط المختلفة، وإن
التركيب الاجتماعي أبطأ تطوراً من التركيب اللغوي والتقنيات، وهي بدورها
تتفاوت في سرعة تطورها.
4- التركيب
المعتقدي والديني: وهو يشمل إلى جانب الدين، جميع أشكال المعتقدات والبنية
الأسطورية لدى القوم، ويمكن للأخلاق أن تندرج أيضاً في مستوى هذا التركيب.
5-
التركيب الجمالي: وهو يشمل الفنون والآداب والتعبير، من خلال الشكل واللون
والإيقاع، ويندرج هذا التركيب في جميع التراكيب الثقافية، وهو يتطور بسرعة
لارتباطه بالتقنيات واللغة، أكثر من ارتباطه بالمجالات الاجتماعية
والاعتقادية.
ومن خلال تفاعل هذه
التراكيب فيما بينها وفي وتائر تطورها، ينتج النموذج الثقافي الذي يحدد
السمات الثقافية المميزة للمجتمع، وهو يدخل في سلوك الأفراد فيوجهه
وينمطه، وهكذا فمعرفة النموذج الثقافي تساعد على توقع سلوك الأفراد في
تركيب ثقافي معين، ويعيش الأفراد هذا النموذج كطريقة في الوجود، وتعتبر
مثالية وسوية ومعيارية، أي أنها تشكل المرشد والضابط لسلوكهم وتوجهاتهم.
وفي ضوء مناقشتنا للتراكيب الثقافية، ونظراً لأهمية ثقافة الطفل العربي، يمكن أن نحدد الخصائص
التالية للتربية الثقافية للطفل :(1)
1- تتجه إلى الطفل الفرد، لكنها تسعى أن تكون شاملة للجماعة كلها، ومن ثم فهي فردية وجماعية في آن معاً.
2-
متكاملة، تضع أمامها حاجة شخصية الطفل العربي إلى النمو العقلي والاجتماعي
والانفعالي والجسدي، وحاجتها إلى روح الجماعة والعمل المشترك، وإلى
التدريب على المحاكمة والنقد والتحليل والتركيب والتعبير الشفوي والكتابي.
3- تساعد الطفل على التعامل طواعية
مع الوسط المحيط به، فيتأثر به ويؤثر فيه، يكفيه ويتكيف معه، مما يساهم في
تجانس المجتمع وتضامنه، وقدرته على التقدم.
4-
لا تهمل عموميات الثقافة، كالعادات والتقاليد والتاريخ وأنماط السلوك وطرق
التفكير، التي يشترك فيها الأفراد في مجتمع الطفل، ويتميزون بواسطتها عن
المجتمعات الأخرى. وتسعى إلى التركيز على المحور الثقافي لهذه العموميات،
وبخاصة القيم والمشاعر والمعلومات والمهارات التي تهيئ للمجتمع وسائل
الاستقرار والحيوية.
ويمكن استخلاص وظيفتين أساسيتين للتربية الثقافية للطفل، انطلاقاً من استعراض خصائصها، وهما:
1-
الوظيفة الاجتماعية: إنها الوظيفة الأساسية للتربية الثقافية للطفل،
فالثقافة لا تنتقل بطريقة فطرية موروثة من الآباء إلى الأبناء، أو من فرد
إلى آخر في المجتمع، فالطفل يولد دون شخصيته، ثم تتكون شخصيته خلال تفاعله
مع المحيط الخارجي، في الأسرة والمدرسة والمجتمع، ويؤدي التعليم والتقليد
إلى خلق مركب ثقافي في شخصيته، وهذا المركب الثقافي يتكون من القيم
والعادات وأنماط السلوك، التي تعني الأفكار والمشاعر والتصرف في المواقف
المختلفة.
2- الوظيفة النفسية: إنها
وظيفة (القولبة) لأفراد المجتمع، أي اكتساب هؤلاء أساليب التفكير والمعرفة
وقنوات التعبير عن العواطف والأحاسيس ووسائل إشباع الحاجات (الفيزيولوجية)
وهو ما أصبح يدل عليه بمصطلح (التدامج الاجتماعي) أو (التنشئة الاجتماعية).(1)
وغاية
هذه الوظيفة مساعدة الأطفال على التكيف مع الثقافة، واكتسابهم لهوايتهم
الاجتماعية الثقافية، ومن هنا تكتسب أهميتها الكبرى في تثقيف الطفل
العربي.
ـ التربية والبيئة الثقافية:
هناك عدة أسس يمكن أخذها بعين الاعتبار، عند طرح العلاقة بين التربية والبيئة الثقافية، ومن هذه الأسس:
1-المؤسسة التربوية عامل من عوامل التثقيف:
لا
بد للجيل الصغير في كل ثقافة من الإلمام بالعناصر الثقافية، كالمعتقدات
والقيم والأنماط السلوكية، التي يعيشها أهله وأفراد المجتمع من حوله،
ويمكن أن تسمى عملية الإلمام هذه التثقيف. فمنذ أن يولد الطفل، حتى يصبح
راشداً، وهو يحاول الإحاطة بالعناصر الثقافية التي تحيط به، مما حدا
بالمربين اعتبار العملية التربوية عملية مستمرة، ما دام الإنسان حياً.
2-التربية عنصر ثقافي:
وهي
الجزء الرسمي لعملية التثقيف، وبالرغم من اشتراكها في بعض العناصر مع
ثقافات أخرى إلا أنها لا بد أن تكون متأثرة بالثقافة المحيطة، ولا سيما أن
العلم الذي يشرف على التربية، يكون حاملاً لغالبية القيم والمعتقدات
السائدة في تلك الثقافة، والتربية - في تلك الثقافة، في أي ثقافة- تكون
عبارة عن الجزء المصقول من العناصر الثقافية، وبخاصة في الثقافات
التقليدية، حيث تكون المدرسة بثقافتها وبتركيبها الاجتماعي أكثر رسمية
وتقدماً، مما هو عليه الحال في المجتمع، أما في الثقافات المتقدمة فتكون
المدرسة أقرب بثقافتها وبتركيبها إلى المجتمع المحيط بها، مما هي الحال في
المجتمعات النامية.
3- التربية ناقلة للتراث الثقافي:
منذ
القدم وأهم وظيفة للمدرسة، هي نقل التراث الثقافي، من الأجيال السابقة
للأجيال اللاحقة، والمحافظة على هذا التراث، إلا أن المدرسة لا تقوم بنقل
هذا التراث كاملاً سالماً دون إضافة أو تعديل، فهي تنقله بعد أن تجري
شيئاً من التعديل، وبعد أن تضيف العناصر الجديدة التي وصل إليها الجيل
الحاضر، وتتمشى هذه الإضافات والتعديلات، عادة، مع روح العصر، وتتناسب مع
ثقافة الأجيال الحاضرة.
4-التربية والتغير الثقافي:
يشكل
التغير الثقافي مشكلة هامة للمربين في عصرنا الحاضر، فالمعارف والمخترعات
التي توصل إليها الإنسان في هذا القرن، تفوق إنجازاته بكاملها في القرون
الماضية، ومنذ أن وجد الإنسان في هذا الكوكب، والمشكلة هذه أشد حدة في
المجتمعات المتقدمة منها في المجتمعات النامية، وبخاصة أن الأطفال أخذوا
يستقون علمهم من التلفاز، الذي هو أحدث وأسرع في إحضار المعلومات من
المدرسة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن
المدرسة تؤدي دوراً مهماً، يساوي ذلك الدور، أو الأدوار التي تقوم بها
المؤسسات الأخرى كالعائلة، والعمل، ورفاق اللعب وغير ذلك، وهناك من يعتقد
بأن دور المدرسة أهم بكثير من أدوار المؤسسات الأخرى، ولا سيما أنه يقوم
بالإشراف عليها أناس تخصصوا بهذه العملية(1). وهنا يبرز دور التربية الحديثة في تغيير ثقافة المجتمع وتطويرها.
- خصائص التربية الحديثة:
ويحسن
بنا ذكر خصائص التربية الحديثة، لأن التربية في وقتنا الحاضر يمكن أن تكون
أداة فعالة في تطوير ثقافة المجتمع وتغييرها نحو أي اتجاه، بحيث يخدم
أغراض المجتمع ومتطلباته. وهذه الخصائص هي:
1-
الاهتمام بالطفل ونموه الجسمي والعقلي والوجداني والاجتماعي: وكان هذا
الاهتمام نتيجة لتقدم علم النفس وتجاربه، وتقدم التربية التجريبية، فتجارب
علم النفس أخذت تطبق في حجرة الدراسة، وتتخذ أساساً لتجارب أخرى تربوية،
كقياس مواهب الأطفال وذكائهم ونموهم، وبذلك أخذت التربية تقترب من العلوم
التجريبية، ويزاولها المربون وفقاً لأسس ضابطة، كلها مستمدة من الطفل الذي
هو موضوع التربية.
2- احترام شخصية
الطفل: فقد أحاطته التربية الحديثة بالثقة والطمأنينة، وأشعرته بشخصيته
وفرديته، وذلك بتمكينه من التعبير عما في نفسه بكل أنواع التعبير:
كالكلام، واللعب، والرقص، والغناء، والتمثيل، والرسم، والأشغال.
3-
التعليم عن طريق اللعب والتجربة والممارسة: وقد كانت التربية التقليدية
تعتبر اللعب مضيعة للوقت والمجهود، وتحول بين الأطفال وبينه، أما التربية
الحديثة فترى أنه ضروري لنمو الفرد الجسمي والعقلي، وأنه ميل طبيعي له
غايته التربوية العظيمة.
4-
التعليم عن طريق العمل والخبرة الشخصية: ويرجع هذا المبدأ إلى جعل المدرسة
صورة من الحياة ولا يخفى ما في هذا المبدأ من تشجيع الاعتماد على النفس،
وتنظيم عملية التفكير، وتنمية روح التعاون مع الجماعة، والعناية بأسلوب
العمل، أكثر من تحصيل المعرفة نفسها.
5-
خلق الجو الاجتماعي لنمو الطفل وتكامل شخصيته: وذلك لأن المدرسة الناهضة
جزء من المجتمع، أو هي مجتمع صغير، فهي إذن تمكن الطفل من أن يعامل زملاءه
ورؤساءه بالروح الطيبة، التي تخلقها هذه المدرسة، روح الاحترام والأخذ
والعطاء، ومعرفة الحقوق والواجبات، وتنفيذ القوانين واللوائح عن رغبة
وإصلاح وإخلاص، وأداء الواجب للواجب عينه.
6-
العناية بصحة الجسم والعقل: وذلك بإعداد المدرسة الصالحة لنمو الجسم نمواً
طبيعياً، وفهم الناحية الوجدانية والنزوعية عند الطفل، وتوجيهها توجيهاً
صحيحاً يتخلص به من العقد النفسية بقدر ما يمكن(1).
ـ أهمية ثقافة الطفل:
وتهدف الخطة الشاملة للثقافة العربية، كما وردت في التقرير النهائي، الذي وضعته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم(2)،
والذي يمثل الاستراتيجية الثقافية العربية في مقوماتها ومحاورها، إلى بناء
نظرية ثقافية متكاملة، تشكل إطاراً مرجعياً للسياسات الثقافية العربية،
انطلاقاً من تحديد المنظور المستقبلي و الرؤية الواضحة لنوع الإنسان وشكل
المجتمع المرجو.
ذلك أن الثقافة في
هذا المنظور ترتبط بالهوية العربية، حيث تمثل روح الأمة وأصالتها من
ناحية، كما ترتبط بالمستقبل نظراً لدورها في التنمية الشاملة،ووظيفتها في
صناعة المجتمع وصوغ ملامحه وهويته وتماسكه من ناحية ثانية، فهي تشكل بذلك
ركن البناء الحضاري وأساس تماسك الأمة، وهي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل
صانعة بذلك الهوية المميزة للأمة العربية في انفتاحها العالمي.
وترى
الخطة الشاملة، أن وظائف الثقافة القومية تنصب على تأكيد الأهداف الكبرى
للأمة العربية، التي ناضلت من أجلها منذ عصر النهضة، والتي تتمثل في:
الاستقلال في مواجهة الهيمنة والاستعمار، والوحدة في مقابل التجزئة،
والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والعدالة في مواجهة الاستغلال،
والتنمية في مواجهة التخلف، والأصالة في مواجهة التبعية والتغريب، والحضور
القومي بين الأمم وصناعة المستقبل وتجاوز الانقسام بين فريق يخاصم الماضي
وفريق يخاصم المستقبل.
ولكي تقوم الثقافة العربية بهذه الوظائف،لا بد لها من الاستناد إلى المبادئ الرئيسية التالية(1):
1- حق العربي في اكتساب الثقافة والتعبير عنها باعتباره غاية كل تنمية.
2- شمولية
عملية التخطيط للتنمية، حيث تشكل الثقافة ركناً أساسياً فيها، ذلك أن
التطوير الاقتصادي والاجتماعي لا يتم إلا بالتخطيط الثقافي، الذي يحدد
الأهداف المستقبلية للأمة.
3- يشكل التراث الحضاري العربي الإسلامي الركن الأساس في الثقافة العربية.
4- بما أن الثقافة هي الزاد الفكري والروحي للجميع، فلا بد لها من أن تكون ديمقراطية وجماهيرية إنتاجاً واستهلاكاً.
5- قومية الثقافة ووحدتها عربياً، كإطار يعطي الخصوصيات القطرية كل غناها.
6- دينامية الأصالة والمعاصرة، والخصوصية العربية والانفتاح العالمي.
7- مسؤولية المؤسسات الرسمية والشعبية في التخطيط الثقافي الشامل، وفي ترجمة هذه الخطط إلى برامج منفذة فعلياً.
وبعد
هذا التوضيح للثقافة العربية ومقوماتها، يتعين تحديد إطار البحث في ثقافة
الطفل. ولن ينحصر إطار هذا البحث في عملية التثقيف بالمعنى الفكري الضيق
(أي عملية تهذيب النفس وترقية الفكر من خلال التزود بالمعارف)، بل سيتسع
ليشمل عملية التنشئة الاجتماعية، انطلاقاً من مفهوم الثقافة بالمعنى
الواسع والثقافة العربية تحديداً، والبحث في ثقافة الطفل يصبح بحثاً في
الخيارات الفكرية الكبرى لتشكيل شخصية الطفل العربي، فانتمائه إلى ثقافته
القومية، وإرساء أسس متينة للهوية العربية، ويركز على تنمية أسس فكرية
اجتماعية عربية، تجعل الطفل نواة الثقافة العربية وروحها الموجهة.
وتنبع
أهمية ثقافة الطفل، من وظيفتها الأساسية، في تحويل المولود الجديد من كائن
بيولوجي إلى كائن اجتماعي، وتبدأ هذه العملية قبل ميلاد الطفل وتستمر بعده
حتى الممات. إلا أن الثقافة بما هي تنشئة اجتماعية تحتل مكانة هامة جداً،
خلال سنوات الطفولة وصولاً إلى سن الرشد، فخلال هذه السنوات الحاسمة تتم
عملية الانتماء الاجتماعي بخصائصها وديناميتها الأساسية، كما تتشكل الهوية
الذاتية التي يلعب المحيط الاجتماعي بمختلف مثيراته ووسائطه الدور الحسام
فيها، كما أن الثقافة لا تقتصر على تكوين الهوية، بل تتعداه إلى تكوين
الشخصية بمجملها وتحدد السلوك وتوجهاته وذلك من خلال عمليات النمو، في
مختلف أبعادها العاطفية والمعرفية والاجتماعية والسلوكية والجمالية.
وبذلك
فثقافة الطفل ليست مجرد عملية ارتقاء فكري وتهذيب للحواس، بل هي إعداد
للمستقبل وصناعة له من خلال أجيال الغد، هذا المستقبل رهن بعملية التنشئة
ومدى العناية التي تعطى لها ونوع التوجهات الأساسية التي تتخذها، ولذلك
فلا مبالغة في القول بأن مدى تقدم المجتمع يرتبط بمدى أهمية النظرة إلى
الطفولة والتعامل معها وإعدادها.
إن الهوية الوطنية وصناعة المستقبل(1)،
تبينان لنا أهمية ثقافة الطفل في الوطن العربي، وطرحها على أسس علمية
وتحديد خياراتها الكبرى بعناية فائقة، ذلك هو أحد السبل الكبرى للحفاظ على
استمرارية الثقافة العربية، ليس من خلال تقوقعها، بل من خلال تجديدها
وإغنائها وبث الدينامية في مقوماتها الأساسية، ويزداد إلحاح هذه القضية مع
تصاعد حملات الغزو الثقافي للوطن العربي وعمليات التغريب.
ويتحدد
مصدر هذا الإلحاح، في قابلية الطفولة والناشئة الكبيرة للتغيير الثقافي
والتأثيرات بالتيارات الجديدة والتجاوب السريع معها، وصولاً إلى تبنيها،
فالطفولة لا يمكن أن تبقى في فراغ أو تعثر أو تضارب ثقافي، إذ إن ذلك يفتح
السبيل أمام تسرب البدائل التي يقدمها الغزو الثقافي، وهي لا تخدم أهداف
الانتماء والهوية الوطنية والإعداد لصناعة المستقبل، بل هي ترمي إلى زعزعة
الروابط بالأصالة وتقطيع أوصال التاريخ وصولاً إلى الصهر الثقافي
والاتباع. وبذلك تتجلى أهمية ثقافة الطفل العربي، في الدفاع عن الكيان من
ناحية، وفي صناعة المصير من ناحية ثانية، مما يجعل الجهود مبررة في هذا
المضمار، ويجعل كل تراخ أو تسيب استسلاماً للثقافات الغازية، وذوباناً
فيها، وتبديداً للكيان والمصير.(1)
-وسائط ثقافة الطفل:
إن
الثقافة تؤثر في الطفل من خلال مؤسساتها المختلفة، وبعض هذه المؤسسات لها
أثرها التربوي المقصود، أي أن مهمتها الرئيسية هي تربية الطفل وإعداده
الإعداد المناسب لعضوية المجتمع، الذي يعيش فيه، ونذكر من هذه المؤسسات:
الأسرة والمدرسة إلا أن معظم المؤسسات الثقافية الأخرى كالصحافة والمجلات
والإذاعة والتلفاز وغيرها، تتجه إلى الكبار والصغار معاً، أي أن تأثيرها
يبدأ منذ طفولة المواطن، ويستمر خلال مراحل نموه وحياته.
ويهمنا هنا معرفة وسائط ثقافة الطفل بأنواعها المختلفة، وتقسم هذه الوسائط إلى عدة فئات أبرزها ما يلي:
1- الوسائط
المكتوبة: وتتضمن أدب الأطفال من قصص وحكايات، وكذلك المجلات والمعاجم
ودوائر المعارف العلمية والتاريخية، وكتب السير والتراجم.
2- الوسائط
المسموعة والمرئية: وتتضمن المسلسلات والحكايات والبرامج التي تعرض في
الإذاعة، وكذلك برامج التلفاز على اختلافها: تربوية، وتعليمية، ووثائقية،
وترفيهية، ومغامرات - وتاريخية، وبوليسية.
3- الوسائط المجسدة: من مسرح أطفال، ومسرح دمى، على اختلاف موضوعاتها ومستوياتها.
4- الفنون الجميلة: وتتضمن الموسيقى والأغاني للأطفال وكذلك الفنون التشكيلية.
5- الوسائل
التربوية والألعاب: وهي تضم تشكيله كبيرة من الأنشطة المعرفية: أرقام،
حساب، رياضيات، علوم، تاريخ، جغرافيا، علوم الطبيعة والحياة، ألعاب فكرية،
وألعاب مهارة(1) .
وتتكامل
هذه الوسائط في وظائفها، وفيما يحمله كل منها إلى الطفل من دلالات
ومؤثرات، وفيما تلعبه في نفسية الناشئة وقضاياها الوجودية من أدوار، وهي
تشكل في مجموعها شبكة تحيط بالطفل وتستوعبه، مما يجعل دورها في تحديد
عالمه وتوجهاته يفوق كل تصور أو نظرة سطحية.
ويؤدي
الوسيط الثقافي دوراً حيوياً في إيصال الإنتاج الثقافي إلى الأطفال ويصبغ
الوسيط الجيد العمل الأدبي بصبغة خاصة، تتفق مع طبيعته التي تميزه عن غيره
من الوسطاء، وهو في هذا يضفي على العمل الأدبي ألواناً من التشويق، تجعله
أكثر اقتراباً من نفوس الأطفال، وتجعلهم أكثر حرصاً عليه، وسعياً وراءه،
كما تجعل تأثيره في نفوسهم أعمق وأبقى.
وتقودنا
معرفة وسائط الثقافة، إلى الحديث عن دلالات الموهبة الثقافية عند الأطفال،
بغية الاستفادة منها في التعامل مع الوسائط الثقافية التي تتمثل في النقاط
التالية:
- القدرة على تحليل المقروء والمسموع ونقده وتذوقه.
- القدرة على استعمال اللغة العربية الفصيحة في الاتصال بالآخرين شفوياً وكتابياً، في وضوح الأفكار ودقتها وصحتها وتنظيمها.
- القراءة السليمة المعبرة.
- القدرة على الإحساس بالجمال وتذوقه في النصوص.
- التفوق على الأقران في لون من ألوان النشاط اللغوي أو الأدبي أو الثقافي(1).
ولا
شك في أن وسائط ثقافة الطفل بأنواعها المختلفة، تساهم في رعاية الأطفال
وتنشئتهم، من خلال احتضانها الإنتاجي الثقافي للموهوبين فجميع الوسائط
ووسائل الإعلام مطالبة بمتابعة هؤلاء الأطفال، الذين يكتبون ويتصلون بها،
وإضافة لذلك أرى أن الأسرة والمدرسة والمجتمع، هي مصادر الرعاية للأطفال
الموهوبين ثقافياً، لأن هؤلاء الأطفال هم رجال المستقبل، وعماد المجتمع في
التقدم والازدهار.
- التربية الثقافية والمستقبل:
لقد
استقر رأي العلماء، على أن التربية عملية تنصرف في جوهرها إلى إعداد الطفل
الصغير إعداداً يؤهله لكي يكون فرداً صالحاً نافعاً لنفسه ولمجتمعه ويتسع
مفهوم التربية ليشمل ثلاثة مجالات، هي: تنمية الجسم تنمية سليمة عن طريق
الرعاية الصحية الشاملة والمستمرة، وتهذيب النفس بما ينطوي عليه من رقي في
المشاعر والوجدان والتمسك بالقيم الخلقية، وتثقيف الفكر وتحصيل المعارف
بما يؤكد وجود الفرد برؤية صالحة نافعة، لليوم والغد الأفضل.
وإن
الاهتمام بالتربية الثقافية للطفل العربي، يعني الاهتمام بالواقع
والمستقبل معاً، وإن قضية المستقبل ليست فصلاً جديداً في كتاب التاريخ،
يبدأ من خواء، بل إن المستقبل هو الحصيلة التراكمية لما يتتابع من
الأحداث، وعمليات التغير النابعة من المجتمع أو الوافدة عليه. وحين نحاول
استشراف مستقبل الوطن العربي مثلاً في نهاية القرن الحالي، أو بدء القرن
التالي، فإن علينا أن ندرك أنها ستكون ثمرة ما نفعله منذ الآن، وحتى ذلك
التاريخ.
وليس
هناك من شك، في أن الوضع الحالي للتربية الثقافية للطفل في الدول العربية،
بكل إشكالياتها المتناقضة، يؤثر تأثيراً بالغاً في مسارات المستقبل،
وتنبعث ضرورة الدراسات المستقبلية العربية، بصفة أساسية، من حقيقة أن
الأمة العربية في هذه المرحلة من تاريخها، تتمتع بإمكانات هائلة للتطور،
ولتحقيق نهضة حضارية شاملة، ولكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات ضخمة في
الداخل والخارج، وتتعدد أمامها المسارات، وتتشعب الطرق، التي يمكن أن
تسلكها لبلوغ أهدافها، والتغلب على الصعوبات التي تواجهها.
وعلى
الرغم من أهمية المستقبل ودراسته، فإن الدراسات المستقبلية ما زالت مسعى
علمياً حديث العهد، ومنهجيتها ما زالت محل الجدل والمناقشة، ويتطلب إجراء
الدراسات المستقبلية على نحو سليم، أربعة أمور:
1- المعرفة الوثيقة بالواقع العربي.
2- والمتابعة المستمرة للتطور في العلوم الأساسية وتطبيقاتها (التكنولوجية).
3- والاهتداء بالفكر التنموي الحديث، وشموله لمجموع ما يسمى العلوم الاجتماعية.
4- واستخدام الأساليب الكمية في اختبار نتائج المسارات المختلفة للتنمية(1)
وإذا
كنا نطمح إلى التنمية الشاملة، أو التحرر، أو التوحيد القومي، أو العدالة
الاجتماعية، أو المركز القومي في حلبة العلاقات الدولية، أو غير ذلك من
الأهداف، فإن علينا أن ندرك أن شيئاً من ذلك لن يتحقق، إلا إذا أخذنا
بأسبابه من الآن. فالقرارات التي نتخذها اليوم، ترتهن المستقبل في اتجاه
أو آخر، وإلى جانب ذلك، تسري في جنبات المجتمع العربي عمليات تغير في
السلوك والقيم الاجتماعية، مما يؤثر في تنشئة الطفل العربي وتنمية شخصيته.
ومن
خلال الأسس التالية، التي يجب أن تقوم عليها التربية الثقافية للطفل
العربي، ندرك أهمية ثقافة الطفل ودورها في التخطيط للمستقبل:
- تأصيل الهوية الثقافية، مع اهتمام خاص باللغة العربية.
- التأكيد على التراث العربي الإسلامي، وما يزخر به من منجزات.
- التأكيد على التحصين الثقافي من أجل إطلاق طاقات النمو عند الطفل.
- اعتماد مبدأ قومية التخطيط لثقافة الطفل وشموليته، والتنسيق بين جميع مجالات ووسائطها.
- قيام هذا التخطيط على دراسات عملية تتناول جميع جوانب حياة الطفل، وتقوم على تنسيق جهود المختصين في مختلف وسائط ثقافة الطفل.
- العناية الخاصة بإعداد الخبراء الفنيين والتقنيين في مختلف مجالات ثقافة الطفل وتربيته.
- الاهتمام
بأدب الأطفال، والخدمات المكتبية، والنشر والتوزيع، ومسرح الطفل، ووسائل
الترفيه، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.
وخلاصة
القول، أن التربية الثقافية للطفل العربي، تطرح بكل بساطة، وكل خطورة،
قضية الثروة البشرية المستقبلية، هل نريد أن نرعاها وننميها ونصبح أشد
امتلاكاً لمصيرنا، أم نستمر في إهمالها وهدرها، ثم نتأسف على ما سيصل إليه
حالنا من التدني والضعف؟
وفي
الحقيقة، أن أسوأ صورة للمستقبل، هي تلك التي تنتج عن الموقف السلبي من
محاولة صنع المستقبل، موقف التخلي عن حرية الإرادة الإنسانية، وترك
الأحداث تصنع مستقبل الناس، وهذا الموقف السلبي لا يناسب التطلع المستقبلي
للمجتمع العربي، وينبغي التفكير في المستقبل والإعداد له بشكل يكون أدعى
للتقدم، ورفع مستوى المعيشة، واحتلال الموقع الأرفع في العلاقات الدولية.
وإن الامتناع عن محاولة استهداف صورة معينة للمستقبل، لا يعني بقاء الحال
على ما هي عليه، وإنما قد يصل بالمجتمع إلى درجات أدنى، أو يفرض عليه
تغيرات عنيفة ذات تكلفة اجتماعية كبيرة.
وتتجه
الأنظار حالياً إلى التربية الثقافية للطفل العربي بغية تنمية الثروة
البشرية المستقبلية على أسس صحيحة، فالتربية الثقافية عملية حياة كاملة،
تأخذ منها وتعطيها وتعكس التغيرات الثقافية وتدعمها وتثبتها، وتعمل على
استقرارها، وهي وسيلة المجتمع إلى إحداث التغير المطلوب، في الإنسان
والمجتمع على السواء.